12‏/11‏/2008

في ظلال الايمان



بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين سيدنا محمد و آله و صحبه و التابعين إلى يوم يوم الدين و على جميع الأنبياء و آلهم و الملائكة و آتاه الوسيلة و رضي عنه رضا لا سخط بعده و أكرمنا بشفاعته يوم الدين و بعد .
فهذه بتوفيق الله تبارك و تعالى كلمة موجزه في الحكم و المتشابه من القرآن الكريم و ما يجب على المؤمن نحو كل منهما فأسأل الله تعالى أن يمنحنا فيها و في كل حياتنا الرشاد و السداد
( رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)الكهف (10)
يقول الله تعالى و هو أصدق القائلين ( هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (7)
) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (8
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) آل عمران صدق الله العظيم .

يخبرنا الله تبارك و تعالى في تلك الآيات الكريمة أنه سبحانه قد جعل من القرآن الكريم :
1- آيات محكمات أي واضحات الدلالة على معانيها لكل من تمرس بأساليب اللغة العربية .
2 - و جعل منه آيات متشابهات يدل ظاهرها على معنى قد يخالف معنى الآيات المحكمات أو يعارضها .
3- و أنه يجب علينا حيال ذلك :
(1) أن نعمل بالآيات المحكمات لأنها هي وحدها أم الكتاب أي أصل عقائده و شرائعه التي كلفنا الله تبارك و تعالى بها .
(2) و أن نجانب الذين في قلوبهم زيغ و هم الذين يتتبعون المعاني الظاهرة للآيات المتشابهة و يحرفونه إلى أهوائهم الفاسدة(ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ) أي إضلال أتباعهم و إيهامهم بأن القرآن حجة لهم على بدعتهم و انحرافهم عن سبيل المؤمنين قال صلى الله عليه وسلم ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله تعالى فاحذروهم ) أخرجه الخمسة إلا النسائى .
(3) أن نتأسى بالراسخين في العلم الذين أثنى الله تعالى عليهم , نتأسى بهم في الإيمان بأن المتشابه لا يمكن أن يعارض الحكم لأن كلا منهما (مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) و من المستحيل أن يكذب القرآن بعضه بعضا هذا مع تفةيض المعنى المراد من النتشابه إلى علم الله تبارك و تعالى مادام سبحانه و تعالى لم يكلفنا بالبحث عنه و إنما كلفنا بالإيمان رحمة بنا و تفضلا منه علينا (إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيد) المائدةُ (1)
هذا و لم يرد عن المعصوم صلى الله عليه وسلم فيما أعلم تحديد أو إحصاء للآيات المتشابهات في القرآن الكريم , و إن كان قد روي عنه صلى الله عليه وسلم النهي عن التكلم في القدر , و عن التفكير في ذات الله تبارك و تعالى , و عن قيل و قال و كثرة السؤال و لعل ذلك يعني النهي عن الخوض فيما لا يعود بالخير و الرشد على المسلمين .
و لكن الذي يتتبع تاريخ الإسلام الحنيف ووحدة الصف المسلم حوله , ثم مبدأ انقسام المسلمين إلى فرق و أحزاب اتباعا للهوى , يجد أن منشأ تلك الفرق هو الانحراف عما أمرنا الله تبارك و تعالى به في اتباع الراسخين في العلم و مجانبة أهل الأهواء و الزيغ فإن الراسخين في العلم هم المؤمنون المتمكنزن من هدى الله تبارك وتعالى كما يشير إليه قوله عز شأنه للنبي صلى الله عليه وسلم محذرا له عن مصانعة أهل الضلال مهما كانت قوتهم (قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)البقرة (120) فاتباع الراسخين في العلم هو اتباع سبيل المؤمنين الذي من شذ عنه فقد شذ إلى جهنم مع المعاندين مصدقا لقوله عز شأنه(وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا)النساء (115)
هذا و مما ال شك فيه أن أولى المؤمنين و أحقهم بهذا الوصف الكريم , وصف الراسخين في العلم هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهد الله تبارك وتعالى (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْه)التوبةُ(100)
(لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون)الحشر(9)
و شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الصحيح ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ) و قوله صلى الله عليه وسلم ( عليكم بسنتي و سنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواخذ ) و قوله صلى الله عليه وسلم ( الله الله في أصحابي لو أنفق أحدكم مثل أُحُدٍ ذهبا ما بلغ مُدَ أحدهم و لا نصيفه ) فرضي الله تعالى عنهم و جزاهم عنا خير الجزاء بما ضحوا بدمائهم و أموالهم في سبيل إنقاذنا من شقاء الدنيا و جحيم الآخرة (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ(4)الجمعة
أقول إن المتتبع لنشأة الفرق التي تلت عصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم يجد أنها إنما نشأت و ضلت حين اتبعت الأهواء و كونت لها نزعات و مذاهب شيطانية ثم دخلت بتلك الأهواء و النزعات إلى القرآن الكريم تحاول أن تلتوي ببعض آياته لتأييد باطلها منحرفة في ذلك كله عن اتباع سبيل المئمنين الذين شهد لهم الله تعالى و رسوله صلى الله عليه وسلم بالعصمة و التأييد كما تشير إيه الآيات السابقة مع قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تجتمع أمتي على ضلال ) و قوله صلى الله عليه وسلم ( من فارق الجماعة شبرا فقد خلع رِبقة الإسلام عن عنقه ) أخرجه أبوداود.

على كل مسلم يريد هدى الله تبارك و تعالى صادقاً :
1- أن يتجرد من كل هوى قبل أن يحوم حول الكتاب و السنة .
2- و أن لا يدخل إلى حمى الكتاب العزيز إلا و هو يستضئ بخير مصباحين , أحدُهما سيرتُه صلى الله عليه وسلم في كل حياته العظيمة التي كانت هي التفسير العملي للقرآن الكريم (بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)النحل) , و ثانيهما اتباع سبيل المؤمنين و هو إجماع المسلمين من الصدر الأول المشهود لهم بالعصمة من الله تبارك و تعالى و رسوله صلى الله عليه وسلم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9))يونس , نسأل الله تبارك و تعالى أن يجعلنا منهم و أن يُلزمنا جماعتهم و زمرتهم في الدنيا و الآخرة (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) مريم)

أقول إذا كان لم يَرِد عن النعصوم صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمتشابه سوى تحذيرنا من أن يكون سببا في تفرقنا و زيغ قلوب فريق منا , دون أن يُحصِي لنا صلى الله عليه وسلم أو يحدد عدد الآيات المتشابهة و أنواعها ,فإننا نجد أن منشأ تفرق المسلمين بعد العصر الأول هو اختلاف أهوائهم في فهم :
1- معاني آيات الإيمان و الإسلام و ما يترتب على ذلك من أحكام .
2- في فهم معاني الآيات التي تحدد معنى الكفر و الفسق و الظلم و حكم مرتكب الكبائر .
3- آيات الصفات و القضاء و القدر .
و من الاختلاف في فهم الآيات و نحوها اتباع للأهواء و مجافاة لإجماع المسلمين فضلا عن اتباعه صلى الله عليه وسلم نشأت فرق الخوارج و الجهمية و القدرية الأولى و القدرية الثانية و المعتزلة بكافة فرقهم و الكرامية و المرجئة و غيرهم و غيرهم , كل يحاول أن يُكَفِر خصومه و يُسَمِ نفسه و مذهبه الزائغ المنحرف بالإسلام الحنيف (كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)المؤمنون) , وسوف أحاول هنا بمشيئة الله تعالى اتباع سبيل المؤمنين في تقريب معاني تلك الآيات التي كانت سبب فُرقتهم و الفصلفي تلك المشاكل التي أثاروها تضليلا لأتباعهم و ترويجا لبدعتهم و الله تعالى يهدينا سواء السبيل بمنه و كرمه آمين .

معنى الإيمان و الإسلام

يؤخذ من نصوص الكتاب و السنة و من إجماع المسلمين أن كلمتي ( الإيمان و الإسلام ) اسمان لحقيقتين تختلف كل منهما عن الأخرى في المفهوم منها و في الآثار المرتبطة بها :
1- فأما اختلاف الإيمان و الإسلام في المفهوم فيدل عليه :

(1) أن الإيمان في اللغة هو التصديق بالقلب تصديقا تنفعل به النفس , و أن الإسلام هو الخضوع و الاستسلام الظاهري للسلطة القاهرة و لو مع تكذيب القلب , و لما كان القرآن قد أُنزِل بلسان عربي مبين كان من الواجب علينا أن نفهمه حسب مدلول ألفاظه في اللغة العربية .
(2) قوله تعالى (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14)الحجرات)
(3) أن الله تعالى كلما ذكر الإيمان في القرآن أضافه إلى القلب , قال تعالى (مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ)المائدة (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ )النحل (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ) المجادلة (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) الحجرات على حين أته تعالى يَذْكُر الإسلام بالقول (وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا)الحجرات , و كذلك فعل صلى الله عليه وسلم كما يقول (هلا شققت عن قلبه ) و حين يقول ( أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ).
(4) أن الإسلام قد وجد فعلا بدون الإيمان , كما كان الحال في المنافقين من الذين قال الله تعالى فيهم(وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)البقرة)
(وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ )التوبة

و أَصْرَحُ من ذلك كله حديث جبريل على نبينا و عليه السلام و نصه كما يأتي ( عن يحيى بن يعمر رضي الله تعالى عنه قال : كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني , فانطلقت أنا و حميد بن عبدالرحمن الحميري حَجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر , فِوفَقِ لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فاكتنفته أنا و صاحبي أحدنا عن يمينه و الآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي فقلت : أبا عبدالرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن و يتقفرون العلم ) و ذكر من شأنهم ( و أنهم يزعمون أن لا قدر و أن الأمر أُنُفُ ) قال ( فإذا لقيتَ أولئك فأخبرهم أني برئ منهم و أنهم برآء مني , و الذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أُحد ذهبا فأنفقه ما قَبِلَ الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال : حدثني أبي عمر بن الخطاب قال : ( بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر و لا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبته إلى ركبته ووضع كفيه على فخذيه و قال يا محمد أخبرني عن الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تشهد أن لا إله إلا الله و أن محمداً رسول الله و تُقيمَ الصلاة و تؤتي الزكاة و تصوم رمضان و تحج البيت إن استطعت إليه سبيلا , قال : صدقت , فعجبنا له يسأله و يصدقه , قال فأخبرني عن الإيمان قال : أن تؤمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر و تؤمن بالقدر خيره و شره , قال : صدقت قال : فأخبرني عن الإحسان , قال : أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك , قال : فأخبرني عن أمارتها , قال : ما المسئول عنها بأعلم من السائل , قال : فأخبرني عن أماراتها , قال : أن تَلِدَ الأمة ربتها و أن ترى الحفاة العراة العالة رعاة الشاه يتطاولون في البنيان , قال : ثم انطلق مليا , ثم قال : لي يا عمر أتدري من السائل ؟ قلت : الله و رسوله أعلم , قال : فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ).
فهذا الحديث صريح في حقيقة الإيمان هي غير حقيقة الإسلام و أن أساس الدين هو الإيمان , و أن هيكله و مظهره هو الإسلام و أن قمته وروحه هي الإحسان .
هذا و ليس معنى الإيمان بالله تبارك و تعالى هو مجرد التصديق بوجوده تعالى أو بوحدانيته في الخلق و الرزق و التدبير , فإن المشركين كانوا يؤمنون بذلك كله قبل إرسال الرسل و مع ذلك سماهم الله تعالى مشركين و كفارا و أرسل إليهم الرسل يدعونهم إلى الإيمان , كما يشير إلى ذلك قوله عز شأنه مسجلا عليهم اعترافهم بذلك كله (قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85 ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)المؤمنون)
و قوله تعالى (قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) يونس) إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تسجل اعترافهم بوجوده تبارك و تعالى في العبادة و الحاكمية كوحدانيته في الربوية بالخلق و التدبير و الإنعام سواء بسواء , كما يشير إلى ذلك قوله عز شأنه (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ (54) الأعراف) , فكما أنه لا خالق سواه فإنه يجب أن لا يطاع أي أمر لسواه , و لكن المشركين قد آمنوا بوحدانيته في الخلق و كفروا بوحدانيته تعالى في الأمر , فعبدوا معه غيره و تحاكموا إلى الطاغوت كما يشير إلى ذلك قوله تعالى (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1)الأنعام) يعني يجعلون غيره من الطواغيت معادلا أي مساويا له تبارك و تعالى في وجوب الطاعة , و قد كانت تلبيتهم في الحج هكذا ( لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك ) تعالى الله عن ذلك عُلواً كبيراً , لهذا أرسل الله تعالى رسله إليهم تفضلا منه و رحمة يدعونهم إلى الإيمان بوحدانيته تعالى في الأمر – أي في حق الحاكمية و الطاعة – كإيمانهم بوحدانيته تعالى في الخلق , إنقاذا لهم من شقاء الدنيا و جحيم الآخرة .
فالمراد من الإيمان بالله تبارك و تعالى الذي جاءت به الرسل و الذي ينقذ المؤمن من النار هو الإيمان بالله تبارك و تعالى منعوت بأسمى صفات الجمال و الجلال بكمال الألوهية و الربوبية و أنه يفعل ما يريد و يحكم ما يريد (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)الأنبياء) مع الإيمان بأسمائه الحسنى و صفاته العظمى التي أنزلها في كتبه تعالى على أنبيائه و رسله صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين .
أما معنىالإيمان بالملائكة فهو اعتقاد أنهم من صفوة خلق الله تبارك و تعالى معصومون مطهرون (وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)الانبياء) (يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)النحل) و أنه تبارك و تعالى قد وكلهم بخدمة الإنسان تكريما له و تعبدا لهم , فجعل منهم أمناء وحيه إلى رسله كجبريل , و جعل منهم حفظة عشرين مَلَكَاً لكل إنسان , وجعل منهم كتبة حسناته و سيئاته , ووكل بعضهم بالرياح و بعضهم بالأمطار و بعضهم بالأرزاق و بعضهم بالحساب و العذاب و الرحمة و الوفاة (حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61)الانعام)
و أما الإيمان برسله تعالى و كتبه فهو التصديق بأنه تبارك و تعالى قد اصطفى بمحض إرادته أناسا من البشر هيأهم لحمل رسالته و أمدهم بكل ما تحتاج إليه من الصفات النفسية و الخلقية و الجسمية و الاجتماعية , ثم أنزل عليهم مع أمين وحيه كتبه و أوامره لينقذوا الناس باتباعها من شقاء الدنيا و جحيم الآخرة فضلا منه تعالى و رحمة (أَمْرًا مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)
رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)الدخان) و أنه تعالى قد أحاطهم بأوثق الضمانات عند تلقي الوحي و عند تبليغه حفظا من تخليط الشيطان عليهم (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)الجن) , و أن جوهر رسالتهم جميعا هو ما أشار إليه عز شأنه بقوله (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ (213) البقرة) فهذه وظيفة كل رسول و كل كتاب من كتب الله تبارك و تعالى(لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ(213)البقرة) و إنما يختلف الناس دائما في مقاييس الحق و الباطل و الخير و الشر و الحسن و القبيح , و أن دينهم واحد (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ُ (19)آل عمران) و لكن اختلفت شرائعهم (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا (48)المائدة) , و أنه تبارك و تعالى قد جعل القرآن الكريم مصدقا لجميع الكتب السابقة و مهيمنا عليها و تكفل بحفظه إلى يــــــــــــوم القيامة (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)القيامة )( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)الحجر).
و أعود الآن و أقول مرة أخرى إن هذا الحديث الشريف , حديث جبريل على نبينا و عليه الصلاة و السلام هو الأصل الصريح الجامع لأصول الإيمان و حقيقته , و لتحديد الفرق الواضح بين حقيقة الإيمان و حقيقة الإسلام , و أن الإيمان هو التصديق القلبي بتلك الأصول الستة تصديقا تذعن له النفس و يطمئن به القلب , و أن أصل الإيمان و جوهره لا يتحقق إلا إذا صدق المكلف بكل أصل من تلك الأصول السته تصديقا جازما , فإذا صدق بخمسة منها و كذب أو شك في سادسها كان كافرا بها جميعها , بل إنه لو كذب أي فرد من أفراد أصل واحد كان كافرا بالجميع , فمن آمن بجميع كتب الله تعالى و لكنه شك في واحد منها فقط فهو كافر بجميع أصول الإيمان , و كذا لو آمن بجميع المرسلين و كذب رسولا واحدا منهم فهو كافر بالجميع , ويشير إلى ذلك صراحة مثل قوله عز شأته (كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)الشعراء) مع أنهم لم يكذبوا إلا رسولا واحدا هو هود عليه و على نبينا الصلاة و السلام لأنه هو الذي أرسل إليهم و كذا قوله تعالى (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)الشعراء) و نحوها و نحوها و قوله (وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ (37)الفرقان) مع أنهم لم يكذبوا إلا نوحا على نبينا و عليه الصلاة و السلام .
و هكذا تكذيب أي رسول أو أي كتاب يعتبر تكذيب أي رسول أو أي كتاب يعتبر تكذيبا لجميع الكتب و الرسل و كفرا بالله تبارك و تعالى الذي أرسل هذا الرسول و هذا الكتاب كما أرسل جميع الرسل و أنزل جميع الكتب (لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ (285)البقرة)
فحقيقة الإيمان الشرعية هي التصديق بكل فرد من أفراد تلك الأصول متى عرفناه بشخصية كاكتب الأربعة و الرسل الخمسة و العشرين المنصوص عليهم في القرآن و كذا كل من بلغنا من أشخاص الملائكة و من حقائق اليوم الآخر .
أما حقيقة الإسلام فإنه صلى الله عليه وسلم قد فسرها في هذا الحديث بأمور خمسة , لكن قد قامت الأدلة القولية و العملية من قوله صلى الله عليه وسلم و فعله على تلك ال/ور الخمسة ليست كلها أجزاء متساوية في تكوين حقيقة الإسلام , فإنها لو كانت في درجة واحدة كأصول الإيمان الستة لصح للكافر أن يدخل الإسلام بفعل أي واحدة منها أو بفعل جميعها قبل النطق بالشهادتين , و لكن إنكاره صلى الله عليه وسلم على خالد و أسامة و غيرهما إنكارا شديدا كل الشدة حينما قتل كل منهما رجلا بعد أن نطق بالشهادتين و إعلانه صلى الله عليه وسلم البراءة إلى الله تعالى من فعلهما رغم أن جميع القرائن كانت تدل دلالة قوية على أن هذا الرجل لم ينطق بالشهادتين إلا خدعة للمسلمين لحمايته من القتل بعد أن أسرف هو في قتل المسلمين قبل أن ينطق بها و رغم ابتهال كل من خالد و أسامة رضي الله تعالى عنهما إلى الله و رسوله صلى الله عليه وسلم في الاعتذار عن هذا القتل و الندم عليه و طلب الشفاعة منه صلى الله عليه وسلم لهما فقد أصر صلى الله عليه وسلم على إنكاره الشديد لفعلهم و على إعلان براءته الكاملة و تألمه الشديد من هذا الصنيع و ظل يكرر قوله صلى الله عليه وسلم لهما ( و ماذا تصنع بلا إله إلا الله يوم القيامة ) و قوله صلى الله عليه وسلم ( هلا شققت عن قلبه ..).

أقول إن هذا الإنكار الشديد صلى الله عليه وسلم على خالد و أسامة و من فعل فعلهما دليل قاطع على أن حقيقة الإسلام و أساسه و جوهره و عنوانه هو النطق بالشهادتين فقط , و أن الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج ليست جزء من حقيقة الإسلام و إنما هي فرائض و شعائر يطالب بها المسلم بعد أن يعلن التزام أدائها ضمنا في إعلان إسلامه نطقا بالشهادتين فقط , فإن نُطْق الكافر بالشهادتين يستلزم :
1- الإقرار بالتزامه توحيد الله تبارك و تعالى في الخلق و الأمر أي في الربوية و الألوهية .
2- الإقرار ضمنا بالتزامه أداء جميع الواجبات و ترك جميع المحرمات و ذلك في شهادته نطقا برسالته صلى الله عليه وسلم .
و لقد كانت حياته صلى الله عليه وسلم كلها أصدق برهان عملي على أصالة تلك الحقيقة و ثبوتها و نصاعتها و هي أن جوهر الإسلام و أساسه و حقيقته الفاصلة بين المسلم و الكافر هي النطق بالشهادتين فقط , فكل كافر نطق بهما و لو تحت السيف كان مسلما و أن جميع فرائض الإسلام لا تقوم كلها مقام الشهادتين في ذلك بل لا يصح شئ منها قبل النطق بالشهادتين فهما وحدهما اللذان يقبلان من الكافر ليكون مسلما بخلاف غيرهما من الفرائض فإن صحتها منه تتوقف على نطقه بهما .
هكذا كان عمله صلى الله عليه وسلم طوال حياته التبليغية سواء في العهد المكي قبل أن يشرع من فرائض الإسلام و شعائره غير الشهادتين أو بعد أن شُرعت الصلاة ليلة المعراج ثم تتالعت الشرائع بعدها حتى أكمل الله الدين و أتم النعمة و هو صلى الله عليه وسلم ملازم لدعوة الناس جميعا إلى الإسلام مركزا في الشهادتين فقط إعلانا و إقرارا من الناطق بهما للالتزام بكل ما يترتب على النطق بهما من فرائض و شرائع , فكانت وصاياه لجميع أمرائه في الغزوات هي أن يدعوا الكفار قبل محاربتهم إلى الإسلام نطقا بالشهادتين أو إلى الاستسلام بقبولهم أداء الجزية , فإن لم يستجيبوا لأحدهما فعلى المسلمين أن يحاربوهم حتى يذعنوا لأحدهما و إلى هذا أشارت جميع وصاياه صلى الله عليه وسلم لقادته كما قال في أكثر من حديث صحيح متفق عليه ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ..) و قال أيضا ( من قال لا إله إلا الله دخل الجنة) , فرتب رفع القتال عن الكفار في الدنيا و دخولهم الجنة في الآخرة على مجرد النطق بالشهادتين ,فدل ذلك كله على أن النطق بهما هو وحده حقيقة الإسلام و أن ما سواهما من الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج ليست إلا فرائض و شعائر مفروضة على المسلم و ليس شئ منها جزء من حقيقة الإسلام و أن ما سواهما من الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج ليست إلا فرائض و شعائر مفروضة على المسلم و ليس شئ منها من حقيقة الإسلام , و إلا فما القول في جميع تلك البراهين و ما القول في المسلمين قبل مشروعية الفرائض زهاء أكثر من عشر سنوات بعد البعثة و مالقول فيمن نطق بالشهادتين بعد دخول وقت العشاء مثلا ثم مات قبل طلوع الفجر دون أن يؤدي فرضا من صلاة أو غيرها .
القول أنهم جميعا مسلمون و مفروض علينا أن نعاملهم معاملة المسلمين فلو كانت الفرائض جزء من حقيقة الإسلام لما كانوا جميعا مسلمين .
إذ تقرر هذا جليا و تبين أن حقيقة الإسلام هي النطق بالشهادتين المتضمن لالتزام أداء الفرائض و الواجبات و ترك المحرمات , تبين بجلاء أن الأعمال ليست جزءا من حقيقة الإسلام و لا داخلة في مفهومه و تبين كذلك أن الإسلام ليس داخلا في حقيقة الإيمان و لا في مفهومه فإن الإيمان كما سبق هو تصديقا تنفعل به النفس و يطمئن به القلب فمن صدق بكل أصل من تلك الأصول فقد تحقق بأصل الإيمان و عليه بعد ذلك أن يستكمل صفاته العملية , أما النطق بالشهادتين فليس جزءا من حقيقة الإيمان , فمن صدق بأصول الإيمان و لم ينطق بالشهادتين عن غير إباء أو امتناع فهو مؤمن صادق ناج عند الله إن شاء الله بقوله عز شأنه (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ (100)النساء) , فكل كافر شرح الله صدره للإيمان ففارق دار الكفر مهاجرا إلى الله تعالى و رسوله صلى الله عليه وسلم ليقر عنده بالشهادتين معلنا إسلامه ثم مات في الطريق فإن يكون مؤمنا ناجيا من عذاب الله تعالى إن شاء الله بهذا الإيمان الذي يصحبه الإقرار بالشهادتين الذي هو حقيقة الإسلام.
و إذا تبين بهذا أن حقيقة الإسلام ليست جزءا من حقيقة الإيمان, و أن الإيمان قد يوجد بدون إسلام كما في هذا المهاجر , و أن الإسلام قد يوجد بدون إيمان كما في المنافقين الذين أسلموا بألسننتهم و لم تؤمن قلوبهم و أمرنا مع هذا أن نعاملهم معاملة المسلمين.

أقول إذ تبين أن الإسلام ليس جزءا من حقيقة الإيمان , فإنه يتبين دون شك أن الأعمال كلها ليست جزء من حقيقة الإيمان , لأن الإيمان هو عمل القلب فقط بل هو أساس الأعمال كلها و الدليل على ذلك زيادة على ما تقدم :
1- أن الله تعالى قد جعل الإيمان شرطا لصحة الأعمال كلها , فدل هذا على أنه غيرها لأن الشرط غير المشروط بداهة , فإن الطهارة التي هي شرط لصحة الصلاة و غير الصلاة و يشير إلى ذلك مثل قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97)النحل) .
2- أنه تعالى قد عطف الأعمال على الإيمان في آيات كثيرة , مثل(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107)الكهف) و لا شك أن العطف يقتضي المغايرة لأنه لا يصح عطف الشئ على نفسه , فلو كان العمل هو نفس الإيمان أو جزءا منه لما صح عطفه عليه.
3- أنه تبارك و تعالى كثيرا ما يثبت الإيمان للعاصي مع تلبسه بالمعصية , و ذلك مثل قوله تعالى:
(1) (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا (9)الحجرات) فأثبت لهم الإيمان مع تقاتلهما , فدل ذلك على أنهما غير مخلدين في النار , و أن قوله صلى الله عليه وسلم ( إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل و المقتول في النار ) ليس المراد به الحكم بكفرهما أو خلودهما في النار ماداما لم يستحلا ذلك .
(2) أنه سبحانه و تعالى أثبت لهما أو ابقى لهما أُخوة الإيمان مع ارتكابهما تلك الكبيرة العظمى و هي المقاتلة بقوله تعالى(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)الحجرات) .
(3) و مثل قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى (178)البقرة) فإن القصاص إنما يجب على من قتل عمدا بصفة الإيمان و أكد سبحانه ذلك بإثبات أخوة الإيمان و إبقائها له صراحة بقوله(فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ (178)البقرة) .
فأكد سبحانه صراحة أن القاتل لا يزال أخا في الإيمان لولي الدم بعد أن أثبت أنه لا يزال أخا لجميع المؤمنين الذين ناداهم في أول الآية بقوله (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)البقرة) , فإن القاتل هو أول من يدخل في هذا النداء ليذعن للقصاص الذي كتب عليه باعتباره مؤمنا و يتقبله راضيا استجابة لمنطق الإيمان , ثم إنه تعالى بعد ذلك كله رَغبَ وَلِي الدمَ في العفو عن هذا القاتل حيث ذكره بأخوتهما في الإيمان و حببه في العفو و لو عن شئ قليل من القصاص و هذا منه سبحانه و تعالى نهاية اللطف و الرحمة حيث تدرج بولي الدم و القاتل معا إلى بحبوحة الإخوة الإيمانية التي لا يحسن معها الإصرار على القطيعة , فاستنزل الولي و هو في عنف غضبه حين ذكره بحقوق تلك الإخوة و طالبه بأعذب أسلوب أن يمنحها و لو شيئا قليلا من العفو و هو يعلم سبحانه و تعالى ما شرعه لنا أن أقل عفو عن القصاص و لو من بعض الورثة يسقط القصاص كله فما أكرمه تبارك و تعالى و ما أرحمه بمن اقتحم أكبر الكبائر و أي كبيرة بعد الشرك أعظم من أن يحبب تبارك و تعالى إلى و لي الدم مع ذلك العفو عن القصاص ثم أن يفرض عليه بعد ذلك كله أن لا يسئ إلى القاتل أدنى إساءة بعد هذا العفو و أن يتقاضى منه الدية بالمعروف و أنه إذا رجع في عفوه فأساء إلى القاتل أو أعنته أو كلفه فوق طاقته في في أداء الدية فسيكون له العذاب الأليم في الآخرة فإذا كانت هذه هي رحمته تبارك و تعالى في الدنيا بمن اقتحم أعظم كبيرة بعد الشرك فكيف تكون رحمته سبحانه و تعالى بنا و به في الآخرة , لقد صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال و هو الصادق دائما ( إن الله جعل الرحمة مائة جزء فجعل لنفسه تسعا و نسعين جزءا و جعل للخلق جميعهم جزءا واحدا فيه يتراحمون و منه ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ) و قال صلى الله عليه وسلم ( لو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار ) نسأله تبارك و تعالى أن يجعلنا جميعا من أهل رحمته و سائر المؤمنين بمنه و كرمه و أن يشفع فينا سيد المرسلين صلوات الله و سلامه عليه و علليهم أجمعين و آلهم و الملائكة و آتاه الوسيلة و الحمد لله رب العالمين.
(4) و من ذلك قوله تعالى (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ (72)الانفال) فقد جعلهم سبحانه و تعالى مؤمنين و أبقى لهم وصف الإيمان مع تركهم الهجرة و مع ما في ذلك من الوعيد الشديد الذي يشير إليه قوله عز شأنه (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا (97)النساء) دَل على أن قوله تعالو عنهم بعد ذلك (فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ (97)النساء) إنما هو محمول على شدة العذاب ثم الخروج منها بعد ذلك لأنهم مؤمنون , أو محمول على من استحل ترك الهجرة و قطع موالاة المؤمنين و تولى الكافرين , على أن قوله تعالى للمهاجرين ( مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ (72)الانفال) يؤكد الوجه الأول . و الله تعالى أعلم .
(5) و مثل ذلك قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا (8)التحريم) و قوله تعالى (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)النور) و قوله صلى الله عليه وسلم ( كل بني آدم خطاء ) , فإن ذلك كله يقتضي أن كل مؤمن لا ينفك عن ذنب.
(6) و من ذلك أيضا قوله تعالى(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)الزمر) مع قوله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا (116)النساء) فإنه يفهم من الآيتين أن مغفرة الذنوب خاصة بالمؤمنين , و أنه لا يُخلد في النار صاحب كبيرة متى كان مؤنا لهذه الآيات و الأحاديث و غيرها و غيرها , و منها قوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ..) و قوله صلى الله عليه وسلم للمقداد ابن الأسود حينما استأذنه في قتل من قال ( لا إله إلا الله عائذا بها من القتل بعد أن قطع يد المقداد ( لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله و أنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها ) , وقوله صلى الله عليه وسلم لأسامة رضي الله عنه ( أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله ..) (أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا ) ( كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة) حتى تمنى أسامة أنه لم يكن أسلم إلا يومئذ.
و منها حديث أبي ذر رضي الله تعالى عنه و لفظه ( قال أبوذر : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم و هو نائم عليه ثوب أبيض ثم أتيته فإذا هو نائم ثم أتيته و قد استيقظ فجلست إليه فقال : ما من عبد قال ( لا إله إلا الله ) ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة , قلت : و إن زنا و إن سرق ؟ قال : و إن زنا و إن سرق , قلت : و إن زنا و إن سرق ؟ قال : و إن زنا و إن سرق – ثلاثا – ثم قال الرابعة : رغم أنف أبي ذر فخرج أبوذر يقول : و إنْ رَغِم أنف أبي ذر ) رواه الشيخان .
و من ذلك أيضا قوله صلى الله عليه وسلم ( من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسصوله و أن عيسى عبدالله ورسوله و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه , و الجنة حق , و النار حق , أدخله الله الجنة على ما كان عليه من العمل ) أخرجه الشيخان و الترمذي , و في أخرى لمسلم ( من شهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله حرم الله تعالى عليه النار ) , و لعل المراد بذلك و الله أعلم تحريم خلوده فيها لصريح الآيات و الأحاديث المتضافرة كلها على أنه لا يُخلد مؤمن في النار و إن كان ما في قلبه من الإيمان مثقال ذرة , فعن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ) قا لأبوسعيد : ( من شك فليقرأ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ).
و عن عمر رضي الله تعالى عنه ( أن رجلا كان يلقب حمارا و كان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أحيانا و كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشرب , فأُتِيَ به يوما فأمر به فجلد , فقال رجل من القوم : اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به! فقال صلى الله عليه وسلم : لا تلعنوه , فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله و رسوله ) أخرجه البخاري .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يُدخل الله أهل الجنة الجنة يُدخل من يشاء برحمته , ويدخل أهل النار النار ثم يقول امظروا من وجدتم في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخروجوه فيخرجون منها حُمَمَا قد امتححشوا فيلقون في نهر الحياة أو الحيا فينبتون فيه كما تنبت الحبة إلى جانب السيل ألم تروها كيف تخرج طفراء مُلتوية ) ( أو كما تنبت الغُثاءة في جانب السيل ) رواه مسلم .
هذا فضلا عن أحاديث الشفاعة التي بلغت مبلغ التواتر و حسبنا أن نورد منها حديثين من الصحيحين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لكل نبي دعوة مستجابة فتعَجَل كلُ نبي دعوته و إني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا ) و عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال (حدثنا محمد صلى الله عليه وسلم قال : إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض فيأتون آدم فيقولون له اشفع لذريتك فيقول لست لها و لكن عليككم بإبراهيم عليه السلام فإنه خليل الله فيأتون ابراهيم فيقول لست لها عليكم بموسى عليه السلام فإنه كليم الله فيأتون موسى في}تَى موسى فيقول لست لها و لكن عليكم بعيسى عليه السلام فإنه روح الله و كلمته فيؤتى عيسى فيقول لست لها و لكن عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم , فأوتى فأقول : أنا لها فأنطلق فأستأذن على ربي فيؤذن لي فأقول بين يديه فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الآن يُلهمنيه الله ثم أخر له ساجدا , فيقال لي : يا محمد , ارفع رأسك و قل يُسمع لك و سلْ تعطه و اشفع تشفع , فأقول : رب أمتي أمتي , فيقال : انطلق فمن كان في قلبه حبة ممن بُرة أو شعيرة من إيمان فأخرجه منها , فأنطلق فأفعل ثم أرجع فأحمد بتلك المحامد ثم أخبر له ساجدا , فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك و قل يسمع لك وسل تعطه و اشفع تشفع , فأقول : أمتي أمتي , فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه منها , فأنطلق فأفعل ثم أعود إلى ربي فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا , فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك و قل يُسمع لك وسل تعطه و اشفع تشفع , فأقول : يا رب أمتي أمتي , فبقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار : فأنطلف فأفعل ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخر له ساجدا , فيقال لي : يا محمد ارفع رأسك و قل يُسمع لك و سل تعطه و اشفع تشفع , فأقول : يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله : قال : ليس ذاك لك أو قال : ليس ذلك إليك , و لكن و عزتي و كبريائي و عظمتي و جبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله ) ىو في رواية ( ثم أعود الرابعة فأقول يارب ما بقي إلا من حبسه القرآن ( أي لم يبق في النار إلا الكفار الذين حكم عليهم القرآن بالحبس في جهنم خالدين فيها أبدا و الله تعالى أعلم ) زاد مسلم في روايته ( فيقول الله عز و جل : شفعَت الملائكة و شفع النبيون و شفع المؤمنون و لم يبق إلا أرحم الراحمين ) ( فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حُمَمَا فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر و أخيضر و ما يكون منها إلى الظل يكون أبيض , فقالوا : يا رسول الله , كأنك كنت ترعى بالبادية قال : فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة ( هؤلاء عتقاء الله ) الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه و لا خير قدموه , ويقول : ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم , فيقولون : ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحد من العالمين . فيقول : لكم عندي أفضل من هذا , فيقولون : يا ربنا أي شئ أفضل من هذا ؟ يقول : رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبدا ) .

و نختم تلك النصوص بتك الأحاديث الثلاثة :
أحدهما ( قال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه : كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني و بينه إلا مؤخرة الرحل أو كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يُقال له عُفَيْرُ , فقال : يا معاذ بن جبل قلت : لبيك يا رسول و سعديك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله إلا حرمه الله على النار . قال معاذ : يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشرون قال إذن يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثما ) .
و ثانيها قال عثبان بن مالك رضي الله تعالى عنه ( أصابني في بصري بعض الشئ فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أحب أن تأتيني فتصلي في منزلي فأَتخِذَهُ مُصلى قال : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم و من شاء الله من أصحابه فدخل و هو يصلي في منزلي و أصحابه يتحدثون بينهم ثم أسندوا عُظْمَ ذلك و كبره إاى مالك بن دُخشم قالوا : و دوا أنه دعا عليه فهلك و دوا أنه أصابه شر فقضى رسو الله صلى الله عليه وسلم الصلاة . و قال : أليس يشهد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله ؟ قالوا : إنه يقول ذلك و ما هو في قلبه , قال : لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله و أني رسول الله فيدخل النار أو تطعَمَهُ , قال أنس : فأعجبني هذا الحديث فقلت لابني اكتبه ) .
و ثالثها عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال ( كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا فأبطأ علينا و خشينا أن يقتطع دوننا و فزعنا فقمنا فكنت أول من فزعنا فقمنا فكنت أول من فزع فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتيت حائط للأنصار لبنى النجار فدرت به هل أجد له فإذا ربيع يدخل ممن جوف حائط من بئر خارجة و الربيع الجدول احتفرتُ كما يحتفرُ الثعلب فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبو هريرة ؟ فقلت : نعم يا رسول الله , قال : ما شأنك ؟ قلت : كنت بين أظهرنا فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا ففزعن فكنت أول من فَزعَ فأتيت هذا الحائط قال : يا أبا هريرة , و أعطاني نعليه , قا ل: اذهب بنعلي َ هذين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشروه بالجنة , فكان أول من لقيت عمر , فقال : ما هاتان النعلان يا أبا هريرة ؟ فقلت : هاتان نعلا رسول الله مستيقنا بها قلبه بشرته بالجنة فضرب عمر بيده بين ثديى فخررت لإستى , فقال : ارجع يا أبا هريرة فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاء وركبني عمر فإذا هو على أثري , فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما لك يا أبا هريرة ؟ قلت : لقيت عمر فأخبرت بالذي بعثني به فضرب بين ثديى ضربة خررت لإستى , قال : ارجع , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عمر ما حملك على ما فعلت ؟ قال : يا رسول الله بأبي أنت و أمي , أبعثت أبا هريرة بنعليك من لقى يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا به قلبه بشره بالجنة ؟! قال : نعم , قال : فلا تفعل , فإني أخشى أن يتكل الناس عليها فخلهم يعملون , قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلهم يعملون ) رواه الشيخان.

و إنما ختمت تلك النصوص الكثيرة بهذه الأحاديث الثلاثة لأركز على نقطتين هامتين :
1- أولهما أن هذه الأحاديث و أمثالها قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم و هو بالمدينة الشريفة بعد الهجرة و بعد أن شرعت كل شرائع الإسلام و فرضت كل فرائضه و ليس من الصحة في شئ أنه صلى الله عليه وسلم قال تلك الأحاديث بمكة قبل أن تشرع شرائع الإسلام كيف يكون هذا مع أن رواة تلك الأحاديث كلهم من الأنصار رضوان الله تعالى عليهم و إن راوى الحديث الثالث هو أبو هريرة رضي الله تعالى عنه الذي أسلم سنة سبع بعد الهجرة بعد أن فرضت جميع أركان الإسلام و فرائضه التي كان أولها فرض الصلاة ليلة المعراج بمكة ثم فرض الزكاة و الصوم في السنة الثانية من الهجرة ثم فرض الحج آخرها في السنة السادسة من الهجرة الشريفة فهذا كله يقينا أنه صلى الله عليه وسلم قال تلك الأحاديث بعد استقرار شرائع الإسلام كلها .
2- أم النقطة الثانية التي أحب أن أركز عليها فهي أن نهيه صلى الله عليه وسلم لمعاذ عن أن يبشر الناس بأن من نطق بالشهادتين حرمه الله تعالى على النار مخافة أن يتكلوا على ذلك و يتركوا العمل .
أقول نهيه صلى الله عليه وسلم لمعاذ عن ذلك و موافقته لعمر رضي الله تعالى عنه في مراجعته له حين ضرب أبا هريرة الذي ذهب يبشر الناس بهذا امتثالا لأمره صلى الله عليه وسلم أقول إن ذلك كله يثبت يقينا أنه صلى الله عليه وسلم قد صدرت عنه تلك الأحاديث و أمثالها و هو يقصد بكل كلمة فيها معناها الظاهر الذي يفهمه كل عربي و يقصد منها أن يعلن يقينا بدون لبس و لا تأويل أن الله تبارك و تعالى و هو أرحم الراحمين و هو مالك الملك و الملكوت الذي له الخلق و الأمر و الفعال لما يريد , أنه تبارك و تعالى و هو أعلم بخلقه قد ارتضى لعباده و بشرهم بأنه سبحانه قد جعل النطق بالشهادتين وحده موجبا لدخول الجنة منجيا من الخلود في النار و إن لم يقترن بهما أي عمل من الخير فضلا منه و رحمة (إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)المائدة) فكل عبد نطق بهما خالصا من قلبه فقد أوجب الله تعالى له الجنة و حرم عليه بفضله الخلود في النار إذا مات على ذلك , هذا هو المعنى المراد يقينا من تلك الأحاديث و أمثالها و ليس المراد من إخلاص القلب بالشهادتين هو استتباعها لفعل الواجبات و ترك المحرمات فمحال أن يكون هذه بشرى يستجمع لها قلب معاذ و أحاسيسه قبل أن يعلنها له مرتين أو ثلاثة و لما كان هناك معنى لأن يستأذنه معاذ في إذاعتها مرتين أو ثلاثةو لما كان هناك معنى لأن ينهاه صلى الله عليه وسلم ذلك مخافة أن يتكل عليها الناس و يتركوا العمل و لما كان هناك معنى لأن يرسل صلى الله عليه وسلم أبا هريرة بتلك البشرى و يعطيه نعليه الكريمتين أمارة مؤكدة لتلك البشرى .
أجل لو كان المراد من إخلاص الشهادتين هو العمل بمقتضاهما لما كان هناك معنى لذلك كله و لا لتأثم معاذ من إخبار الناس بهذا الحديث إلا و هو في سياقة الموت بل يكون هذا كله عبثا يتنزه عنه صلى الله عليه وسلم و أصحابه رضوان الله تعالى عليهم و بهذا يتبين يقينا أن تلك الأحاديث و أمثالها يراد منها حقيقتها الظاهرة الواضحة يراد بها إثبات أصل من أصول الإيمان التي يتضمنها تصديقه صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به و أنه يجب على كل من يصدقه صلى الله عليه وسلم في رسالته أن يصدق بأنه صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن الله تبارك و تعالى أنه سبحانه فضلا منه و رحمة قد جعل كلمة التوحيد التي قامت بها السموات و الأرض مع الشهادة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم سببا موجبا لدخول الجنة لقائلها مُحرِما خلوده في النار أعاذنا الله تعالى من تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الافتيات على الله تبارك و تعالى في ملكه .
أجل : إن كل من يضيق صدره بذلك فهو مكذب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مفتات على الله تبارك و تعالى في ملكه يرى نفسه أعدل من ربه (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)المجادلة)
و حسبه أن يكون من تلك الجماعة المارقة التي رأى زعيمها أنه أعدل من رسول الله صلى الله عليه وسلم و رماه صلى الله عليه وسلم بالظلم حاشا لله ثم حاشا لله فعن عبدالله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال ( قسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَسْما فقال رجل إنها لقسمة ما أريدَ بها وجهُ الله ) أو ( ما عُدل فيها و ما أيد فيها وجه الله قال فقلت و الله لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسااررته فغضب من ذلك غضبا شديدا و احمر وجهه ) أو ( فتغير وجهه حتى كان كالصرف حتى حتى تمنيت أني لم أذكره له , ثم قال : فمن يعدلُ إن لم يعدل الله و رسوله ؟! ثم قال : يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر , قلت : لا جرم لا أرفع إيه بعدها حديثا ).
و عن جابر رضي الله تعالى عنه قال ( أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانه مُنْصَرَفَهُ من حُنين و في ثوب بلال فضة و رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض منها و يعطي الناس . فقال : يا محمد , اعدل , قال : ويلك , و من يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت و خسرت إن لم أكن أعدل فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق فقال مَعاذ الله أن يتحدث الناس أقتل أصحابي , إن هذا و أصحابه يقرءون القرآن و لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرميه ).
و في رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه في واقعة أخرى مماثلة لتلك ( إن هذا الرجل أو مثله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اتق الله يا محمد فقال له صلى الله عليه وسلم : ويلك أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله من يطع الله إن عصيته أيأمننى عل أهل الأرض و لا تأمنوني فقالم إليه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله ألا أضرب عنقه ؟ قال : لا , ثم أدبر فقام إليه خالد سيف الله , فقال : يا رسول الله, ألا أضرب عنقه ؟ فقال : لا , لعله أن يكون يصلي . قال : خالد و كم من مصلِ يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لم أُومر أن أنقب عن قلوب الناس و لا أشق بطونهم ثم نظر إليه و هو مُقْفِ ! فقال : إن من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يقتلون أهل الإسلام و يدعون أهل الأوثان يمرقون من الإسلام ) أو ( من الدين كما يمرق السهم من الرمية لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد أو قتل ثمود ).
و في رواية أخرى عن علي رضي الله عنه و كرم الله وجهه ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يقرءون القرآن ليس قراءتكم إلى قراءتهم بشئ و لا صلاتكم إلى صلاتهم بشئ و لا صيامكم إلى صيامهم بشئ يقرءون القرآن يحسبون أنه لهم و هو عليهم لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ) صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم و صدق الله العظيم (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُّهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (58) الاحزاب) .
(رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) آل عمران) نعم نشهد أن لا إله إلا الله و نشهد أن محمدا رسول الله و نشهد معه صلى الله عليه وسلم امتثالا لما بلغه عن ربه تبارك و تعالى أنه لا يلقى الهه تعالى بهما عبد مسلم إلا حرمه الله تعالى على النار و على كل من ضاق صدره بفضل الله تعالى أت يلتمس له ربا سواه , سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين .
سلام على ابراهيم خليل الله أبي الأنبياء الذي يقول فيما أثنى الله تعالى عليه (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) ابراهيم) و سلام على عيسى روح الله الذي يقول كما أثنى الله تبارك و تعالى عليه(إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) المائدة) و الصلاة و السلام على سيد الأنبياء و المرسلين الذي ظل يردد في صلاته ليلة بأكملها تلك الآية وحدها لا يزيد عليها (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) المائدة) و قد روى مسلم الذي أخرج جميع الأحاديث السابقة ( أنه صلى الله عليه وسلم تلا قول قول الله عز و جل في ابراهيم (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36)) و قول عيسى عليه السلام (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) المائدة) فرفع يديه و قال : اللهم أمتي أمتي , وبكى فقال الله عز و جل : يا جبريل اذهب إلى محمد و ربك أعلمُ فسله ما يبكيك ؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال و هو أعلم , قال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك و لا نسؤك ) فجزاه الله تعالى عنا خير ما جازى نبنا عن أمته و صدق الله العظيم (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ (6)الاحزاب) (لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) التوبة) نسأل الله تبارك و تعالى أن يكرمنا بدعوته و بحسن اتباعه و شفاعته و تنفيذ وصيته .
( إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ) و في رواية أخرى ( فسدو و قاربوا فإن المنبت لا أرضاه و لا ظهرا أبقى ) و إذا كان سبحانه و تعالى يهدر نطق المكلف بكلمة التوحيد التي بها أنزل كتبه و أرسل رسله و قسم عباده إلى شقي و سعيد .
روى الترمذي و ابن ماجه عن عبدالله بن عمرو رضي الله تعالى عنهم أنه قال ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله عز وجل يستخلص رجلا من أمتي على رؤس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة و تسعين سجلا كل سجل مد البصر ثم يقول : أتنكر من هذا شيئا ؟ أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال : لا يا رب قال : أفلك عذرا أو حسنة ؟ قال ؟: فبهت الرجل . فيقول : لا يا رب فيقول : بلى , إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم , فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله , فيقول : أحضروه . فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟! فيقول : إنك لا تظلم قال : فتوضع السجلات في كفة و البطاقة في كفة , قال : فطاشت السجلات و ثقلت البطاقة , قال : و لا يثقل شئ مع بسم الله الرحمن الرحيم ) رواه الترمذي و ابن ماجه .
و إذا كان تبارك و تعالى قد جعل خلود الكفار الحقيقيين في النار رهن مشيئته حيث يقول (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107)هود) بل إنه تبارك و تعالى عاتب حبيبه و سيد خلقه صلى الله عليه وسلم حين توقع عدم فلاح رجال من عتاة المشركين الذين شجوا وجهه الشريف في غزوة أحد و أسالوا دمه الكريم و كسروا رباعيته بعد أن امعنوا في إيذائه صلى الله عليه وسلم و في التنكيل بأصحابه رضوان الله تعالى عليهم زهاء ثلاثة عشر سنة في العصر المكي كله حتى اضطروهم جميعا إلى الهجرة و لكنه تبارك و تعالى مع ذلك كله لم يرض لحبيبه صلى الله عليه وسلم أن يتوقع عدم الفلاح حتى لرؤسائهم و قادتهم بل و لم يرض له أن يلعنهم أو يدعو عليهم .
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على صفوان بن أمية و سهيل بن عمرو و الحارث ابن هشام فنزلت (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128آل عمران))أخرجه البخاري و الترمذي و النسائي .
و عن الترمذي ( أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم أحد : اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن صفوان بن أمية . فنزلت (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ (128آل عمران))فتاب عليهم فأسلموا و حسن إسلامهم ).
فمنذا الذي يستطيع بعد ذلك كله أن يقدم بين يدي الله تعالى فيتنبأ بمصير عباده متجاهلا تلك النصوص (قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) البقرة)

أعلى درجات الإيمان

إذا قرنا تلك النصوص و ما أكثرها بحديث جبريل على نبينا و عليه الصلاة و السلام رأينا مبلغ تفاوت المؤمنين في درجات الإيمان فأعلاهم درجة هو من تحقق بما في حديث جبريل على نبينا و عليه الصلاة و السلام فجمع بين الإيمان و الإسلام و الإحسان .
فهو ذلك الإنسان الذي تمثل عقائد الإسلام حياة لقلبه , و شرائعه و شعائره منهجا لسلوكه , و إعلاء كلمته غاية لوجوده .
ذلك هو الإنسان الذي أدرك مدى ما بين الهدى و الضلال و الحياة و الموت و الظلمات و النور (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا (122) الانعام) (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101)آل عمران) ذلك هو الإنسان الذي استأهل أن يعبأ الله تعالى به بما أجاب دعوته و أن يدين له الوجود كله بما هداه غايته (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ا(77) الفرقان) (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) الذاريات) ذلك هو الإنسان الذي عرف مدى فضل الله تبارك و تعالى عليه و مدى تكريمه له. عرف لماذا خلقه الله تعالى بيديه و نفخ فيه من روحه و أسجد له ملائكته و اصطفاه لشرف الخلافة و السيادة على هذا الكون كله الذي خلقه من أجله و سخره لسعادته بسمائه و أرضه و علوه و سفله (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)الجاثية) (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاء بِنَاء وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ (64)غافر) فحسب هذا الإنسان أن يكون هو مراد الله تبارك و تعالى من هذا الوجود كله و أن تكون عوالم هذا الكون خلقت كله من أجل خيره و بره , نعم فقد خلق سبحانه من أجله كل ما في الوجود و أفاض عليه نهاية الكرم و الجود .
خلق له الدنيا و ما فيها من طيبات ليتبلغ بشئ منها فيحظى بعبودية الشكر , و ليؤثر إخوته بأحسن ما عنده فيفوز بجزيل الأجر (قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (32)الاعراف) و خلق من أجله كل ما في الدنيا من شرائر و مصائب و محن لئلا يركن يوما إليها و ليفوز بعبودية الصبر عليها و ليواسي فيها من ابتلى بها و هو في كلا الحالتين إما صبور و إما شكور فما أحراه أن يعجب صلى الله عليه وسلم من أمره حين يقول ( عجبت لأمر المؤمن إن أمره كله لهو خير و ليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء فشكر كان خيرا له و إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له ).
نعم و من أجل هذا الإنسان المؤمن خلق الله تعالى الآخرة بما فيها من جنة عرضها السموات و الأرض و من جحيم و قودها الناس و الحجارة و إن نعمته تبارك و تعالى على هذا المؤمن بخلق النار و ما فيها من ويل و ثبور لا تقل عن نعمته تعالى عليه بخلق الفردوس و ما فيها مما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فإذا كانت الجنة من مظاهر عزته و عظمته و جلاله فإذا كان الذي يحدو المؤمن إلى الجنة هو رجاء كرمه و رحمته و فضله فإنه يجب أن يدفعه إلى أعمالها و إلى احتمال المكاره التي تحفها خوف غضبه تعالى و نقمته و عدله .
فحسب النار أن تكون سبب اللياذ به تعالى و الفرار إليه و الارتماء على بابه و التضرع و الأنين و البكاء بين يديه و كفى بذلك (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50)الذاريات)و حسبها كذلك أن يكون لعياذ منها و الأخذ بحجز المؤمنين عنها و مجاهدة الدعاة إليها من شياطين الإنس و الجن سببا في نيل الشهادة و الفوز بالحسنى و زيادة (إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ (111)التوبة) و هكذا يرى المؤمن مدى فضل الله تعالى عليه و مبلغ إكرامه له و أنه سبحانه لم يخلق شيئا في هذا الكون إلا من أجل سعادته و خيره ابتداء من الدنيا التي خلقها لابتلائه بما فيها من خير و شر ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (35)الانبياء) و رخاء و شدة (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ (40)النمل) (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)البقرة) إلى الآخرة التي خلقها تعالى لجزائه بما فيها من جنة يهيم بها رجاء فضله و نار يفر منها اتقاء عدله .
و ابتداء من أكبر أعدائه إبليس إلى أصغر أوليائه ملائكة الله المكرمين (نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ (31)فصلت) أجل فقد تعبد الله تبارك و تعالى ملائكته الأكرمين بالقيام على مصالح المؤمن في الدنيا و الآخرة فجعل منهم حفظة يحفظونه يسيروندائما في معيته (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهٍ (11)الرعد) ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل و ملائكة بالنهار يجتمعون في صلاة الفجر و العصر فيسألهم ربهم و هو أعلم كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : تركناهم و هم يصلون و أتيناهم و هم يصلون ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم و جعل منهم رسلا يحملون إليه الوحي من أجل سعادته (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ (75)الحج) (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) التكوير) و جعل منهم طوائف لحماية الرسل أثناء تبليغ الوحي إليهم من استرق الشيطان أو تخليطه (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)الجن) و جعل منهم طوائف أخرى لتأييد المؤمن و تبشيره بنصر الله تعالى و الانتقام من أعدائه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) الاحزاب) (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) آل عمران) كما جعل سبحانه منهم طوائف لتدبير شئون المؤمن في الدنيا و تيسير رزقه (فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) النازعات)( وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ (13) الرعد) و جعل منهم طوائف أخرى لتبشيره برضوان الله تبارك و تعالى و حسن عاقبته عند وفاته (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ (32) فصلت) و طوائف أخرى لحسن استقباله و تأمين روعه و تبشيره بالسعادة الأبدية (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39)عبس)( لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ (103) الانبياء)
و لعله تعالى حشدهم جميعا لتهنئته و مشاطرته و أمسه بالفوز العظيم (وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الرعد) كما حشدهم تبارك و تعالى قبل ذلك للاستغفار له(تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ (5) الشورى) حتى حملة العرش منهم فما أعظمها من كرامة و فضل (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) غافر) .
تلك هي بعض آثار الإيمان و ثماره و بركاته و أنواره أجل تلك هي أسرار الإيمان الذي هدى الله تعالى إليه الإنسان بفطرته و حدد له طريقهُ بإرسال رسله صلوات الله و سلامه عليهم و إنزال كتبه تحقيقا لسعادته و أعان المؤمن على سلوكه بتسخير جميع خليقته .
و ذلك كله فيض من و لايته تعالى و تأييده و محبته و صدق الله العظيم حين يقول في الحديث القدسي ( و لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و يده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها و إذا تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا و إذا تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا و إن أتاني يمشي أتيته هرولة و إن دعاني لأجيبنه و إن سألني لأعطينه و إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي و إن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه و ما ترددت في شئ أنا فاعله ترددي في قبض عبدي المؤمن يكره الموت و أنا أكره مساءته ) سبحان ربي العظيم (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) يس)
هذا هو المؤمن الذي يتسابق الوجود كله إلى خدمته و تحقبق سعادته فأين هو من الكافر الذي يلعنه كل من في الوجود و يتبرأ منه و يتربص به كل موجود (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (162) البقرة) حتى سمعه و بصره و جلده (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) فصلت) حتى لسانه و يده و رجله (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) النور) حتى و ليه الشيطان الذي أغواه و أراده (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (17) الحشر)
و مصدر ذلك كله و جوهره (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) البقرة) ليس للمؤمن في هذا الوجود كله إلا عدو و احد هو ذلك الشيطان الذي الذي ابتلاه الله تعالى به فضلا منه و رحمة .
أجل ابتلى الله تعالى المؤمن بالشيطان فضلا منه تعالى و رحمة بالمؤمن و أي فضل أعظم من ذلك و رحمة ؟
أجل إن هذا الابتلاء هو وحده طريق المؤمن إلى الجنة . أجل لأن هذا لالبتلاء هو سر الوجود كله من ألفه غلى يائه , هو سر كل ما أسبغه الله تعالى على هذا الإنسان من نعم ظاهرة و باطنة , هو سر إنسانية الإنسان و نشأته , سر إبداعه و تكريمه و إحسان صورته , سر اصطفائه و سيادته و خلافته , سر حياته و موته , سر سعادته و شقوته , و أخيرا هو سر وجود هذا الكون كله و سر الإبداع و الإحسان و الإتقان في كل محتوياته و سر انبعاث جميع حركاته و طاقاته (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) النمل) أجل (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (88) النمل) (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) يونس) لما ذلك كله (وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) هود) أجل(صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (88) النمل) (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (7)السجدة) (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) هود) أجل (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (88) النمل) (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) التين) (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ُ (3)التغابن) (وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ (28) البقرة) لماذا كل هذا (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)الانسان) (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)الملك) أجل (صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ (88) النمل) (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) هود)( إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) النمل)( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)الزلزلة).
نسأل الله تبارك و تعالى أن يرحمنا من عدله بفضله إنه أرحم الراحمين و أن يشفع فينا سيد المرسلين صلوات الله و سلامه عليه و عليهم أجمعين و آلهم و الملائكة و آتاه الوسيلة و الحمد لله رب العالمين .
و إنما كانت نعمة الابتلاء بتلك المنزلة من الوجود كله لأنها وحدها هي طريق الفرار إلى الله تعالى في معية القيادة الراشدة الأمينة (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (50) الذاريات)نعم هي طريق الفرار و اللياذ به تعالى من أعدى أعداء الإنسان ذلك الشيطان الذي لا عدو له سواه و الذي يجري منه مجرى الدم و الذي تحرق و اشتعل و تميز حقدا على آدم بما اصطفاه الله تعالى حتى وصل به ذلك إلى الاعتراض عليه تبارك و تعالى و الإعراض عنه و رفض أمره فاستوجب لعنته و طرده و شقائه الأبدي و لم يزده ذلك إلا إمعانا في العداوة و البغضاء و إصرار على أن يحشد كل طاقة و يهتبل كل فرصة و يقتحم إلى النفس الإنسانية كل مأزق و يتخذ من كل شئ في الوجود سلاحا ليفتك بها عن مصدر الهدى و النور و الحياة ثم يتركها في النهاية حطبا لجهنم (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) ص)

الحقائق التي نستخلصها مما سبق

نستطيع أن نستخلص من النصوص و الأدلة السابقة الحقائق التالية :-
1- أن الإيمان و الإسلام و العمل هي خطوات أو مراحل ثلاثة في الطريق غلى الله تعالى .
2- و أن لكل خطوة منها حقيقتها و آثارها التي تميزها عن غيرها .
3- فحقيقة الإيمان هي التصديق بكل أصل من الأصول السته المذكورة في حديث جبريل على نبينا و عليه أفضل الصلاة و السلام تصديقا يطمئن له القلب و تذعن له النفس إذعانا تتأبى معه على الشك فيه أو رفض مطالبه أو الرضا بنقيضه – أما الإسلام فهو نطق المكلف بالشهادتين معلنا براءته من معسكر الكفار و مناهجهم إلى معسكر المسلمين و مناهجهم و أما العمل فهو حركات المكلف انطلاقا و انكماشا متبعا لأوامر الله تعالى و نواهيه .
4- أن مبعث الإيمان و محضنه و مشرقه و موطنه هو القلب وحده . أما أداة الإسلام فهي اللسان وحده . أما العمل فإن مبعثه و أدواته هو الإنسان بكل طاقاته و جوارحه و كينونته .
5- أنه يمكن بل يجب علينا إكراه الناس على الإسلام و على سائر أعماله إذ متنعوا عن شئ منها و ذلك بقتالهم و بإقامة الحدود و العقوبات التعزيرية و تغيير المنكر باليد و هذا بخلاف الإيمان فإنه لا يمكن الإكراه عليه لأنه لا يقوم إلا على الاقتناع الذي تنفعل به النفس انفعالا يذعن له القلب استجابة لفطرة من أنار الله تعالى بصيرته (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99) يونس) و ليست هذه الآية و أمثالها نهيا عن الجهاد و لا تقريرا و لا إعلانا لحرية الكفر و الإلحاد كما تزعم ذلك مدرسة الشيخ محمد عبده رحمه الله تعالى حيث تجرد الإسلام من أخص خصائصه و هي الجهاد الدائم بالنفس و المال لإنقاذ الناس جميعا من شقاء الدنيا و جحيم الآخرة . أجل ليست هذه الآية و أمثالها إعلانا لحرية الكفر و الإلحاد كيف و قد قال الله تعالى (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ (193) البقرة) (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35) محمد) (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)الانفال) و قال صلى الله عليه وسلم ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ) و لم تشرع الجزية كبديل للإسلام لأهل الكتاب خاصة إلا في آخر حياته صلى الله عليه وسلم على أنها لم تشرع لتكون بديلا دائما له و لكن لتكون طريقا لهدايتهم إليه حين يشعرون بأن لا سبيل لهم إلى العِزة برفع الجزية و الصغار عنهم إلا بالإسلام (إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (65) الحج) فليست تلك الآية و أمثالها ليست إلا عتابا له صلى الله عليه وسلم لشدة حزنه على أولئك الجاحدين الذين لم تشرق بنور الإيمان قلوبهم و لم تسعد به حياتهم رغم شدة تضحيته صلى الله عليه وسلم و أصحابه بحياتهم في سبيل دعوتهم و جهادهم ثم هي مواساة و تسلية له صلى الله عليه وسلم و إعذارا له كذلك بأنه ليس مسئولا عن هلاكهم ما دام قد أدى واجبه من التبليغ و الجهاد لأنه لا يستطيع أن يحول قلوبهم و لا أن يكرههم على الإيمان مادام الله تعالى قد سبق في علمه و مشيئته أنهم لا يؤمنون و لهذا جاء عقب هذه الآية مباشرة (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ (100)يونس) و إن الذي دفع بمدرسة الشيخ محمد عبده إلى هذا المسلك :
1- هو ظنهم أن الإسلام والإيمان شئ واحد و غفلتهم عن عشرات النصوص التي تشهد بأنهما شيئان لكل منهما حقيقته و آثاره و إن في نفس الآية التي خُدِعوا بظاهرها و أمثالها ما يثبت ذلك فإنه تعالى قال (أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99) يونس) و لم يقل حتى يكونوا مسلمين و قال بعد ذلك (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ (100)يونس) و لم يقل أن تسلم و كذلك قال سبحانه (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) الشعراء) و لم يقل ( أن لا يكونوا مسلمين ) .
2- وقوعهم في أخبث أحبولة حاكها شياطين المستشرقين ليستأصلوا من نفوس المسلمين حقيقة الإسلام الصحيح , تلك الأحبولة هي قولهم بعقلانية الإسلام و تسامحه و مجافاته للعصبية و مسالمته لجميع أعدائه و قد أشاد المستشرقون بذلك كله ماكرين مخادعين ليدفعوا بالمسلمين إلى أعظم الجرائم التي تنتهي بهم إلى التحلل جملة من الإسلام فقد أرادوا :
(1) أن يغرسوا في نفوس المسلمين منتهى الثقة بهم حتى يجلسوا منهم دائما مجلس التلميذ الصغير من أستاذه الكبير .
(2) و أن يحملوهم على الإعجاب بنزاهتهم و حيادهم و عدم تأثرهم بالدين في أحكامهم .
(3) و أن يدفعوا بالمسلمين إلى تقليدهم في نبذ الإسلام و عدم التأثر به في إصدار أحكامهم كما نبذ هؤلاء ديانتهم الباطلة الزائفة المحرمة (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ (68) المائدة)( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (15) المائدة).
(4) أن يجتثوا من نفوس المسلمين خشية الله تبارك و تعالى و عبوديته و الإذعان لألوهيته و ربوبيته و أن يجرئوا المسلم على أن يحاكم ربه في كل تشريعاته و أوامره و نواهيه إلى عقله هو مادام الإسلام هو دين العقل و من لوازم ذلك رفض جميع الغيبيات و الأحكام التعبدية التي هي جوهر الإلام و روحه و حقيقته . و هكذا ينتهي الأمر بالمسلم إلى أن يكون عبدا لعقله لا عبدا لربه و أن يعامل مولاه كما يعامل أحد أنداده و هذه ردة صريحة عن الإسلام و شرك خالص لا مكان فيه للتوحد (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1) الانعام)
(5) أن يخلقوا في المسلمين أنانيات متدابرة و نزاعات متناحرةةة في فهم الإسلام و تطبيقه حسب اختلاف عقولهم و أهوائهم في فهم الإسلام و تطبيقه حسب اختلاف عقولهم و أهوائهم و هيهات أن يتفق اثنان في النزاعات و العواطف و الميول و بهذا يضمنون تمزق وحدة المسلمين و القضاء على الأخوة الإسلامية التي هي من أعظم نعم الله تعالى علينا و التي عليها وحدها قامت دولة الإسلام باسم الله تعالى تقود الإنسانية كلها إلى سعادة الدنيا و الآخرة (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) الجمعة)
إن الإنسان إنما يكون حرا في التحاكم إلى عقلة إذا كان أمامه طريقان قد توفر في كل منهما بعض المنافع و التبعات و لا يوجد في الدنيا طريق أو نظام يمكن أن يقارب الإسلام في وقاية الإنسان من حتمية الشقاء الأبدي و الخسران فإن الإسلام وحده هو الذي يعصم الإنسان من شقاء الدنيا و جحيم الآخرة (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) آل عمران)( وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) العصر) أجل إن الإسلام ليس واحدا من تلك النظم الأرضية التي تتملق الناس بحل مشاكلهم المادية أو ملء بطونهم أو قضاء مآربهم فإن تلك النظم إنما تستهدف الحياة الدنيا و حدها و تتمثل فيها صفات البشر الذين وضعوها في حاضرهم و مستقبلهم فضلا عن الإحاطة بظروف الآخرين و بما يخبئه القدَرُ في اللحظات المستقبلية , حاشا أن يكون الإسلام واحدا من تلك النظم وحاشا أن يكون الإسلام واحدا من تلك النظم و حاشا ثم حاشا أن يقارن بها (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (6) الفرقان) (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)الملك) (وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) هود) على أن تلك النظم مهما عُنِيَ بها أصحابها و حشدوا لها كل ما ورثوه من علوم و فنون فإنها لا تستطيع أن توفر للإنسان إلا بعض المنافع المادية في تلك اللحظات التي يحياها جماعة من الناس في حياتهم الدنيا – وما الحياة الدنيا بكل ما فيها من زينة و فتنة تساوي عند الله تعالى جناح بعوضة و هي لا تساوي لفحة واحدة في الجحيم يوم القيامة و قد جاء في الحديث الصحيح ما معناه ( يؤتى بأَنعَمِ أهل الدنيا فيغمس في الجحيم غمسة واحدة ثم يقال له هل رأيت نعيما قط ؟ فيقول : لا والله ما رأيت نعيما قط ) و هذا يلمسه كل إنسان ممنا لمسا فطريا ضروريا في نفسه فإنه مهما عاش في النعيم لا يستطيع أن يشعر به بعد زواله و لا أن ينسيه مرضه أو أقل ألم في ضرسه مهما كانت ذكرياته السعيدة , و فضلا عن ذلك فإن الحياة الدنيا لا تساوي طرفة عين و لا ومضة برق إذا قسيت بحياة الآخرة الأبدية تلك الحياة التي سيقول عنها الكافر نفسه يوم القيامة حين يرى خيبته و شقاءه الأبدي (يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) الفجر) و معنى هذا أن الدنيا التي عاشها كلها في نعيم لا تستحق في نظره الآن أن تسمى حياة بجانب ما يعانيه الآن من الشقاء الأبدي للكافرين و السعادة الأبدية للمؤمن إننا إذا قارنا الفترة التي عاشها آدم عليه السلام بالفترة التي قضاها في قبره منذ مات حتى الآن لم نجد فترة حياته شيئا يذكر فكيف إذا قارناها بالفترة التي يقضيها في قبره عليه السلام إلى يوم القيامة و كيف إذا قارناها بالحياة الأبدية التي سوف يحياها في الجنة بعد ذلك إن شاء الله .
فكيف يستطيع أي تشريع أرضي أن يحقق للإنسان شيئا من تلك السعاده حتى يمكن لأن يقال إن الإنسان حرٌ في أن يختار الإسلام أو لا يختاره . إن من الخطأ كل الخطأ و الجهل كل الجهل و الهزيمة كل الهزيمة ذلك الأسلوب الذي يتبعه بعض الناس في المقارنة بين الإسلام و بين تلك المذاهب بأن يَعِرضَ الإسلم من خلالها و لا يرى مجالا لتفضيله عليها إلا أنه صالح لكل زمان و مكان فإنه مساير للتطور و أنه يستطيع في نظره أن يحل مشاكل الجماهير – أستغفر الله - .
إن المقارنه بهذا الأسلوب توحِي بأن المذاهب أصالة و قوة و قدرة على حل المشاكل و صلاحية لبعض الأزمنة و الأمكنة كما تُصور الإسلام طارقا غريبا مدفوعا بالأبواب يستجدي الناس مجرد التفاته إليه و لا يجد القوة و الأصالة الذاتية ما يستطيع به أن يَعرِض نفسه عرضا مستقلا أصيلا و إنما يكفيه أن يعرض نفسه من خلال تلك المذاهب الجاهلية التي لا يجد في حقيقته ما يميزه عنها تمييزا ذاتيا و حسبه أن يتميز عنها في العوارض – في سعة مساحة الزمان و المكان اللذاين يستطيع فيهما أن يقدم خدماته للجماهير و كفى بذلك حُمقا و خزيا و هزيمة (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122)الانعام)
إن على من يحاول المقارنة بين الإسلام و بين أوضاع الجاهلية و مذاهبها و أنظمتها أن يعلم :
1- أولا أن واضعى تلك النظم و المذاهب هم الذين قال الله تعالى فيهم (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الانفال)( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ (39) النور)( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) الانفال)( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) الملك)( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) الاعراف)( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12) محمد)( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) الكهف)( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) الجاثية) و من أجل ذلك كله كانت تلك النظم أو المذاهب الجاهلية ركاما من عماية الكفر و شقائه و جحوده و جاهلية الإنسان و ظلمه و كنوده , و كانت قصارى عنايتها بل منتهى عبثها و نكايتها هو هيكل الإنسان المادي الحيواني الذي يشاركه فيه الكلب و الخنزير و الحمار و حياته الدنيا دون أن يكون لها أدنى تصور لحقائقه العليا التي بها وحدها كان إنسانا و لا أدنى تصور لحياته الأخرى الأبدية التي من أجلها خُلِقَ ليعيش في الدنيا تلك اللحظات التي يقرر فيها مصيره بنفسه إلى السعادة الأبدية أو الشقاء السرمدي الذي لا خسران بعده (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) الزمر) فإذا كان بين المجانين من يؤمن بحرية الجائع في أن لا يُؤثِرُ العسلَ على الصاب و بحرية الضمآن في أن لا يُؤثِر السلسبيل على السراب و بحرية الميض في أن يرفض نصائح جميع الأطباء , و بحرية الزوجة في أن تبيت في فراش غير زوجها , و بحرية كل فرد في الدولة بأن يتآمر مع أعدائها و بأن يهدد جميع قوانينها و بحرية كل مرءوس بأن ينبذ أوامر رئيسه و بحرية الأعمى الأصم في أن يقود أكبر سيارة بأقصى سرعة على الشاطئ المحيط أو في أعتى الميادين و أعظمها ازدحاما و نشاطا و حركة .
أقول إذا كان بين المجانين فضلا عن العقلاء من يؤمن بأمثال تلك الحريات التي مهما عظم خطرها و تفاقم ضررها فلم تتجاوز آثارها إلا ضياع الحياة الدنيا التي لا تساوي مهما طالت بضع لحظات في حياة الإنسان الحقيقية .
أقول إذا كان بين المجانين فضلا عن العقلاء من يستطيع أن يُحِمِل الإنسانية تلك المهالك و الأخطار الدنيوية في سبيل ما يسمى بالحرية فَمن المؤكد أنه لا يمكن و لا يُتصور بحال أن يكون بين المجانين فضلا عن العقلاء من يستطيع أن يؤمن بحرية الإنسان في أن يقذف بنفسه في هاوية الجحيم و أن يختار الحميم و الزقوم و الغسلين و أن يوطن نفسه على أن يكون من هؤلاء (فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22) الحج) و أن لا يكون من هؤلاء (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ (15) محمد) بل حسبه أن يكون من هؤلاء (كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ (15)محمد)( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) النساء)( خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ (37)الحاقة) (إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلًا (14)المزمل).
فهل يستقيم مع كل تلك النصوص و أمثالها أن يقال إن الإسلام يكفل للناس حرية الكفر به و الإعراض عنه لظاهر قوله عز شأنه (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (256) البقرة) و قوله سبحانه (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)البقرة) أيكون ظاهر هاتين الآيتين تقريرا لحرية الكفر و الإلحاد و حماية للشرك أصل جميع الجرائم و مصدر كل فساد فقيم إذا كانت تلك النصوص التي تحطم النفوس رُعبا و هولا و تذيب المشاعر و القلوب فزعا على مصير كل كافر بالإسلام أو معرض عنه سواء كان من المشركين أو من أهل الكتاب(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) البينة)( وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (120) البقرة)( وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) التوبة)
فيم إذن كانت تلك النصوص و أمثالها و لماذا قال عز شأنه (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)آل عمران) و لماذا أمرنا سبحانه و تعالى بجهاد الكفار و الإغلاظ عليهم و الإمعان في قتالهم و عدم مسالمتهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون بمثل قوله سبحانه (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) البقرة)( قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)التوبة)( وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً (36) التوبة)ففرض علينا سبحانه وتعالى قتال الكفار على اختلاف مللهم سواء أكانوا مشركين أو أهل كتاب و نهانا عن مسالمتهم بقوله عز شأنه (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)محمد) و قوله سبحانه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً (123) التوبة)( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ (73) التوبة) فإن أسلموا أو التزموا الجزية و الصغار سالمناهم و هذا هو المراد بقوله عز شأنه (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ ُ (61) الانفال) فهذه الحالة الوحيدة التي شرع الله تعالى لنا مسالمة الكفار و إلا ففيم كانت جميع تلك النصوص التي فسرها صلى الله عليه وسلم هو و أصحابه بدمائهم و حياتهم تفسيرا علميا لا يحتاج أدنى تأويل أو زيغ , و لماذا عمق الله تبارك و تعالى في نفوسنا عداوة الكافرين من الشيطان و حزبه منذ بدأت المعركة في تلك الحياة بنزول آدم على الأرض (وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ (36) البقرة) و ما زال سبحانه يعمقها و يعمقها على لسان كل رسول حتى قال على لسان خاتم النبيين صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) الحج)( إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا (101) النساء)( مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ (105) البقرة)( أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ (29)الفتح)( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (118) آل عمران) و بين سبحانه أن تلك العداوة باقية مستمرة عنيفة قاسية إلى يوم القيامة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) الروم) و قوله صلى الله عليه وسلم ( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون عليه لا يضرهم خُلفُ من خالفهم حتى يأتي أمر الله و هم على ذلك ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم . و لماذا أخبرنا سبحانه أن جهاد الكفار و الإمعان في قتالهم هو شريعة كل نبي بمثل قوله سبحانه (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) آل عمران)( وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا اقْتَتَلُواْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) البقرة)( وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ (161) آل عمران) و حديث النبي الذي حبس الله تعالى له الشمس حتى انتصر على أعدائه و أدرك صلاة العصر و حديث النبي الآخر الذي غل بعض أتباعه من الغنيمة مثل رأس البقرة إلى غير ذلك من الآيات و الأحاديث الصحيحة التي تعمق و تؤصل في نفوس المؤمنين دائما عداوة الكافرين و جهادهم و التضحية بحياتنا و دمائنا في سبيل إنقاذ أنفسنا و إنقاذهم من شقاء الدنيا و جحيم الآخرة – بل إن قتل الأسرى من الكفار بعد استسلامهم كان أيضا من شريعة كل نبي و ذلك إرهابا و إمعانا و إثخانا في قتل الكفار و إسالة دمائهم فلعل ذلك يقذف الرعب في قلوبهم فيفزعوا إلى الأمن و السعادة في الدنيا و الآخرة باعتناق الإسلام و أقرأ معي إن شككت فس ذلك اقرأ معي عقب تلك الآيات التي يتمشدق بظاهرها أولئك المتمشدقون الذين يريدون تعطيل الإسلام و تجميده و القضاء عليه بزعمهم إنه يحمي الكفر و الكافرين و يكفل لهم حرية الكفر و الإلحاد و إن لم يسلموا و لم يؤدوا الجزية و الله تعالى يشهد أن هذا ضلال مبين و مروق عن الدين لا يُعّضرُ صاحبه بالغفلة أو حسن النية فقد قال سبحانه عن المشركين (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) الطور) و مع ذلك فهم مشركون مع قوله سبحانه (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) الانعام) تلك الآية التي يتمشدقون بظاهرها في قوله تعالى (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) الانفال) و قد سبق بيان معناها و ليست أدرى كيف غفلوا أو تصنعوا الغفلة عن الآية التي تعقبها بأسطر و التي تهب بالمسلمين و بالنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدوا بشريعة الأنبياء قبله في الإمعان و الإثخان و التفتن في قتال جميع الكفار أعداء الله تعالى حتى من استسلم منهم أسيرا نعم و صدق الله العظيم (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ٌ (67) الانفال) نعم ( حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ٌ (67) الانفال) و هكذا اشتد العتاب المبرح لرسول الله صلى الله عليه وسلم و هو أكرم الخلق على الله تعالى و أحبهم إليه و لأصحابه و على رأسهم أبوبكر الصديق رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . اشتد عتابه تبارك وتعالى لهم مع خروجهم من غزوة بدر الكبرى منتصرين انتصارا ساحقا فلم يكن أحد من الكفار يستطيع أن يرفع إليهم رأسا و لا أن يخالف لهم كلمة و قد استسلم لهم عتاة قريش و صناديدهم فماذا بقي بعد ذلك كله من مظاهر النصر و أي ضرر يُخشى من إطلاق أولئك الأسرى تقديرا لما بينهم و بين المسلمين من رحم فلعل ذلك قد يميل بهم إلى الإسلام و لعل المسلمين ينالوا منهم الأموال يستعينون بها على تمكين دولتهم الناشئه و يعوضون بها بعض ما سابه منهم أولئك الكفار من أوطانهم و أموالهم قبل الهجرة !
لماذا لم تكن تلك الاعتبارات و غيرها جديرة بالتقدير في ميزان الله تعالى ما دام الأصل في الإسلام كما يفترى هؤلاء هو حرية الكفر و الإلحاد (سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) النور)
نعم لم يكن شئ من تلك الاعتبارات جديرا بالتقدير في ميزان الله تعالى بل عاتب نبيه صلى الله عليه وسلم و صحابته أشد العتاب على قبول الفداء و عدم إسالة الدماء بقتل أولئك الأسرى المستسلمين المسالمين و اشتد العتاب و اشتد حتى أغرق صلى الله عليه وسلم في النحيب و البكاء و حتى قال حديثه الشريف ( لقد عرض على عذابكم أقرب من هذه الشجرة ) و قال ( لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه إلا عمر ) نعم عمر الذي أعلنها قوية مدوية حين استشاره صلى الله عليه وسلم في أولئك الأسرى ( يا رسول الله كذبوك و آذوك و أخرجوك فمرنى أن أضرب أعناقهم و أن أبدأ بقتل أخي ) . رضوان الله تعالى على عمر لقد كان حقا من الملهمين المحدثين – و أخيرا فلماذا تولى الله تعالى بنفسه إهلاك الجبابرة و الفراعنة الذين قد يعجز المؤمن عن جهادهم في بعض الحالات و لماذا لم يتركهم أحرار يكفرون أو يشركون كما يشاءون و كما يشاء لهم الشيطان اللعين (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) العنكبوت) و لماذا رفع سبحانه الجبل على بني اسرائيل و هددهم بإلقائه عليهم إن لم يتقبلوا التوراة و يعلنوا استسلامهم لأمره و حكمه (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) البقرة)( وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ (171) الأعراف)( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) يونس)فلماذا أرغمهم الله تعالى بالقوة على أن يكونوا مسلمين و لم يتركهم أحرارا مارقين!!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين .
إن تجريم أي قانون لعمل ما و تقريره أشد العقوبات لمن يقترفه ثم إعلان هذا القانون نفسه بأن يكفل حرية الناس في مزاولتهم لهذا العمل الذي جرمه و قدر له أشد العقوبات – إن ذلك التناقض المضحك هو إهدار صريح من المشرع لهذا القانون و إعلان عدم صلاحيته و عدم جديته و بأن هذا المشرع لهذا إما أن يكون جاهلا بصلاحية هذا القانون أو كاذبا في تقرير تلك العقوبة أو عاجزا عن تنفيذها أو هو عدو لدود للناس جميعا يريد أن يزج بهم في أُتون تلك العقوبة و يستدرجهم إلى الهاوية بإعلان حريتهم في مزاولة هذا العمل أو تلك الجريمة النكراء هذه كلها عظائم لا تليق بعقلاء البشر فكيف تليق بالإسلام و هو تشريع الحكيم العليم الرحمن الرحيم (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (6) الفرقان) نعم إنه كان غفورا رحيما وسعت رحمته كل شئ بل إنه لا رحيم سواه , إن أرحم الناس بالإنسان و أولاهم به و أحناهم عليه هما والداه و إن رحمتهما لا تساوي شيئا و لن تساوي شيئا من رحمة الله تبارك وتعالى بل إنها ليست إلا ومضة من فيض رحمته تبارك وتعالى و فضله و قد جاء في الحديث الصحيح ( إن الله تعالى جعل الرحمة مائة جزء فجعل لنفسه تسعة و تسعين جزء و جعل للخلق كلها جزءا واحدا به يتراحمون فمن ذلك الجزء ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ) ( و لو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنة و لم يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم فماذا تساوي رحمة الخلق جميعا بالنسبة لرحمته تعالى ؟!!
و ما تساوي رحمة الوالدين بالنسبة إلى ذلك ؟!!
و إذا كان لا يستقيم حتى في تقدير المجانين أن تترك الأم لطفلها الحرية في أن يقذف بنفسه في النار أو في خضم المحيط فكيف يمكن أن نتصور أن الإسلام الذي شرعه أرحم الراحمين يكفل للناس الحرية في أن يقذفوا بأنفسهم في الجحيم طائعي ؟!
أجل لقد حرم الإسلام الكفر بل جعله أصل الجرائم كلها و أكبر الكبائر و المفاسد جميعها و قرر له أبشع و أشنع و أفضع العقوبات التي لا نهاية لها و لا سبيل إلى مغفرتها أو تخفيفها (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ (37) فاطر)( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ الْعَذَابَ (56) النساء) إلى كثير من تلك الآيات التي ينفطر لها كل قلب و تذوب من هولها كل نفس , و إذا كان القانون الذي يعاقب على أي جريمة بالحبس شهرا واحدا لا يمكن أن يقال في شأنه إنه يكفل حرية الناس في مزاولة تلك الجريمة و إذا كان تحديد إقامة الإنسان في بيته و بين أهله يعتبر تقييدا لحريته فكيف يوصف الإسلام الذي جعل عقوبة الكفر هي الخلود الأبدي في الجحيم و الزقوم و الغسلين و الخزي العظيم كيف يوصف مع هذا كله بأنه يكفل للناس حرية الكفر به و الإعراض عنه حتى و لو لم يفرض علينا جهاد الكفار أو دعوتهم إلى الإسلام .
إن تأخير العقوبة إلى الدار الآخرة لا يهون من أمرها في كثير أو قليل فإن الآخرة أقرب للإنسان من ذرة الهواء التي يتنفسها فإننا إذا فرضنا أن دولة ما أرسلت بعثة من أبنائها إلى الخارج و توعدتهم بأن كل ما انحرف عن سلوكه فسوف تستدعيه قهرا عنه و لو بعد انتهاء الرحلة لتطبق عليه العقوبة المقررة و هي سحب شهادته و إلغاء أهليته و إيداعه السجن مدى الحياة – إذا فرضنا أن دولة عملت مثل هذا العمل و هو أمر ممكن سائغ في عرفهم فإنه لا يمكن أن يقال إن تأجيل العقوبة إلى ما بعد انتهاء البعثة يعتبر من الدولة كفالة لحرية هذا الانحراف الذي قررت له تلك العقوبة فكيف يكون عقوبة الكافر في الدار الآخرة التي هي أقرب إليه من كل قريب ؟!
كيف يكون ذلك تهوينا من شأن العقوبة أو ضمانا لحريته في مزاولته أعظم جريمة ؟!
إن الله تبارك و تعالى و هو أرحم الراحمين قد تجلت رحمته و تركزت و تمركزت في نعمته علينا بهذا الإسلام الذي هو وحده مصدر كرامة الإنسان و جوهر سعادته و من أجله وحده أفاض الله تعالى على الإنسان كل نعمة و منحه كل حق فبدون الإسلام لا يكون الإنسان أهلا للحياة التي يتمتع بها الحيوان فضلا عن أن يكون أهلا للحرية أو الكرامة التي هي مستمدة أصالة من جوهر الإسلام (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ (12) محمد)( أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ (179) الاعراف)( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ (193) البقرة)
فإن تكريم الله تبارك و تعالى للإنسان ليس هو في أن خلقه بشرا سويا في أحسن تقويم , و ليس هو في هذا الكون الذي سخره كله له , و لا في هذا العقل الذي ميزه به و الذي استطاع به أن يحطم الذرة و يجوب الفضاء و يغوص تحت أعماق الماء و يسسطر على هذا الوجود , و ليس هو في تلك الطاقات و العبقريات التي تجلت مظاهرها في الحضارة الفرعونية أو الأغريقية أو الرومانية أو الأوربية التي ورثت جميع الحضارات – و ليس هو كذلك في كل ما أفاض عليه تبارك وتعالى من تلك النعم التي لا تُعَدو لا تُحصَى .
أجل : إن تكريم الله تبارك و تعالى للإنسان ليس في كل هذا كيف وقد حكم سبحانه على هذا الإنسان الذي أفاض عليه تلك النعم التي لا تعد و لا نحصى بأنه مع ذلك ظلوم كفار (وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) ابراهيم) و حكم عليه كذلك بأنه ظلوم جهول رغم إكرامه بتلك النعم التي لا تعد و لا تحصى (وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)الاحزاب)أجل و سيظل ظلوما كفارا و ظلوما جهولا مادام يتحاكم إلى غير شريعة الله و يهتدي بغير هداه(وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) المائدة)( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)المائدة)( فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)المائدة)( أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) المائدة)
و لكن تكريم الله تبارك وتعالى للإنسان إنما هو في اصطفائه عبدا له و هداية فطرته و حقيقة إنسانيته و جوهر سعادته في الدنيا و الآخرة(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)طه) و كل ما أفاض عليه بعد ذلك من النعم التي لا تعد و لا تحصى فإنما هي أجنحة و أسلحة وزاد يقطع به الطريق و يحارب عدوه الشيطان و حزبه حتى يسعد بلقائه تعالى في جنة عرضها السموات و الأرض (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) يونس) فالإنسان بدون هذا الإسلام لا وزن له فضلا عن أن يكون له كرامة أو حرية أو كيان(وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) العصر)( قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)الفرقان) يعني أن مظهر تكريمه تعالى لنا و عبوئه سبحانه بنا هو دعوته لنا إلى هذا الإسلام الذي هو سعادتنا الحقة في الدنيا و الآخرة فمن كذب به كان لزاما عليه تبارك و تعالى ألا يعبأ به (إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)المائدة)( إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) هود)
و بعد هذا الاستطراد نعود إلى أصل الموضوع و هو (الحقائق التي يمكن استخلاصها من حديث جبريل على نبينا و عليه الصلاة و السلام و من أحاديث دخول الموحدين الجنة و عدم خلودهم في النار ).
سبق القول بأن الإيمان و الإسلام و العمل هي خطوات أو مراحل في الطريق إلى الله تعالى .
2- و يجب أن نعلم أن تلك المراحل الثلاث لا توجد دفعة واحدة و لكنها مرتبة في الوجود – فأولها و أسبقها وجودا و أساسها هو الإيمان لأنه هو أصل اليقين المتمكن ممن القلب الذي تنفعل به النفس , و ثانيها في الوجود و أولها ظهورا للناس هو الإسلام لأنه نطق اللسان بالشهادتين – و ثالثهما هو العمل بمقتضيات الإيمان و الإسلام أمرا و نهيا و حركة و انطلاقا في الحياة كلها .
3- و هذه المراحل الثلاثة غير متلازمة في الوجود :
(1) فقد يوجد الإسلام و العمل بدون الإيمانة كما في المنافقين و العياذ بالله تعالى .
(2) و قد يوجد الإسلام وحده بلا إيمان و لا عمل كما في الإنسان الذي ينطق بالشهادتين نطق لسان فقط خوفا من السيف ثم يموت على ذلك قبل أن يأتي أي عمل من أعمال الإسلام .
(3) و قد يوجد العمل وحده بلا إيمان و لا إسلام كما في بعض الكفار الذين يتخلقون بأخلاق الإسلام من الصدق و الأمانة و الوفاء و يساهمون في الكثير من أعمال البر كالملاجئ و المستشفيات و كما هو حا لكثير ممن ينتسبون إلى الإسلامو يتحاكمون إلى شرائع الجاهلية مؤمنين و معلنين بأنها خير من الإسلام في نظرهم السقيم و قلوبهم الغلف التي ترى أن الإسلام لم يعد يصلح للعصر(كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5) الكهف)
(4) وقد يوجد الإيمان وحده بدون إسلام و لا عمل و ذلك في حق الكافر الذي أنار الله فطرته و شرح صدره للإيمان فأيقن بجميع أصوله يقينا حازما و عزم على الهجرة إلى معسكر المسلمين لإعلان إسلامه و لكن عاجله أجله قبل الهجرة (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ (100) النساء)
4- إن الإيمان شرط لصحة الإسلام و العمل و قبولهم عند الله تبارك وتعالى فلا يقبل الله تعالى من الإنسان إسلاما و لا عملا مهما كان شأنه إلا إذا كان مؤمنا مصدقا بجميع أصول الإيمان الستة و كان عنله خالصا لله تعالى وحده (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) النحل) فمهما عمل الكافر من خير أو بر فلا أجر له مادام لا يؤمن بالله الذي خلقه ووهبه الحياة و منحه كل الطاقات التي لولاها ما استطاع مزاولة تلك الأعمال و لا غيرها من مقومات الحياة (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (18)ابراهيم)( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا (23) الفرقان)( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) النور).

و ختاما

نسأله تبارك وتعالى أن يكرمنا بالإسلام و بالإيمان و بالإحسان و بالعمل في سبيله تعالى و نسأله أن يغفر لنا ذنوبنا و إسرافنا في أمرنا و أن يكرمنا بشفاعة سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين و آلهم و الصحابة و التابعين و آلهم ,و آتاه الوسيلة و الحمد لله رب العالمين . *
* و إلى هنا توقف القلم الفياض و القلب المخلص و العقل الحكيم و لم يتم تكملة هذا المتاب بوفاة مؤلفه رحمه الله رحمة واسعة – جزاء ما قدم للإسلام و للمسلمين من وقته و قلبه و عواطفه و كيانه كله – و نسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا به على خير مستقر رحمته بفضله سبحانه وتعالى و كرمه , وَصَلَ اللهم و سلم و بارك على سيدنا محمد و على آله وصحبه و آته الوسيلة , وَسَل/ تسليما كثيرا و الحمد لله رب العالمين .

ليست هناك تعليقات: